تختلف الأمم في ضبط العواطف اختلافًا كبيرًا كاختلاف الأفراد؛ فبعضهم حاد المزاج سريع الانفعال، وبعضهم هادئ المزاج بطيء الانفعال. وكذلك الشأن في الأمم فهي تختلف في حدة عواطفها و برودتها ومقدار انفعالاتها أمام الحوادث، ودرجة حزنها وسرورها وخوفها وطمأنينتها إلى غير ذلك.
ومن مظاهر العواطف الخوف من الأمور الصغيرة، والفزع الشديد من الحوادث التي تكون تافهة، والغضب الشديد للكلمة النابية، والوصول إلى أقصى حد في الانفعال للحوادث اليومية، التي يكفي لمرورها غض الطرف عنها، إلى كثير من أمثال ذلك.
هذه الحدة في العواطف، والمبالغة في الانفعال تتخذ في الأمة ظاهرة واضحة، فجانب كبير من الجرائم سببه حدة العواطف، فكل يوم نرى في الجرائد أخبارًا عن قتل أو كسر أو جرح لأسباب تافهة يعجب العقل الهادئ كيف وصلت إلى هذه النتائج، فقتل لنزاع على ماء للري، وضرب أفضى إلى الموت لكلمة صدرت اعتبرها السامع سبًا فاضحًا، وهكذا مما نطالعه كل يوم، حتى في الطبقة المثقفة يثور الجدل بينهم ويبدأ هادئًا، ولكن سرعان ما يحتد المزاج وتعلو نغمة الجدال فتنقلب إلى سباب، ولا يقتصر الأمر على حجة ولا برهان أمام برهان، بل يتعداه إلى سباب ونقد لاذع أمام نقد لاذع، وتنسى المسائل الأصلية وتبقى الحزازات النفسية؛ هذا هو المظهر العام في الشارع، وفي البيت وفي المحاكم وفي الصحف، كأن كل الناس يحمل مستودعًا من البنزين ينتظر أقل اشتباك، أو احتكاك.
ومما يؤسف له أن هذه الحدة في العواطف، والحرارة في الانفعال تظهر كل الأشياء التي ذكرنا وتكون فيها أكثر مما ينبغي، مع أنها تبرد أمام أشياء أخرى وتكون أقل مما ينبغي؛ فلا نرى حرارة في الانفعال أمام جمال الطبيعة ولا جمال المعاني ولا حسن النظام ولا نرى غيرة شديدة على الحرية الفردية ولا الحرية الاجتماعية؛ وهذا الذي يغضب غضبًا شديدًا لكلمة جرحت إحساسه ولا يغضب لمنظر أوذيت فيه العدالة، وهذا الذي ينفعل انفعالًا شديدًا على شيء من ماله لا ينفعل للتعدي على سمعة قومه أو حرية قومه، وهذا الذي يذوب حبًا ويفنى عشقًا فيمن يحب لا يتحرك قلبه لجمال طبيعة أو جمال مبدأ سام؛ فأوتار أعصابه لا تنفعل هذا الانفعال العنيف إلا للنواحي الشخصية والأشياء المادية؛ ولو أنها انفعلت لهذا وذاك لاحتمل ذاك القبح في سبيل هذا الجمال.
حدة العواطف وشدة الانفعال في الأمة تسبب لها متاعب كثيرة في الحياة، وتفقدها سعادتها، فالبيت جحيم من غضب الآباء والأبناء، فكلمة صغيرة من أب لابنه أو ابن لأبيه أو من أم لبنتها أو من بنت لأمها تشعل النار في البيت وتجعله جحيمًا زمنًا طويلًا، والعلاقات بين الأصدقاء عرضة للخطر لتوافه الأمور، والعلاقات بين العاملين في مصلحة أو جمعية معرضة للفساد ولأقل حادث، والعلاقات بين الأحزاب علاقة عداء حاد غالبًا والمحاكم مكدسة بالقضايا من أثر النزاع الحاد، ولو تعودنا ضبط العواطف في كثير من الأحوال لمرت الحوادث بسلام ولكن هل هذا العيب قابل للإصلاح، وهل هذه الانفعالات قابلة للانضباط؟
قد يرى قوم أنها حركات نفسية اضطرارية كنبض القلب وإفراز المعدة، وأنها نتيجة طبيعية لحرارة الجو وطبيعة الإقليم، ولكني لست أرى هذا الرأي، وأنها حركات نفسية إرادية يمكن إصلاحها وتهذيبها والتغلب عليها، بدليل أننا نعيش جميعًا في بيئة واحدة خاضعة لدرجة واحدة من الحرارة ومع ذلك فينا من يضبط عواطفه ويحكم انفعالاته، ولو كان الأمر خاضعًا لفعل الطبيعة وحدها لم يشذ عن الخضوع لها أحد، وكما يقول الفلاسفة: (ما بالطبع لا يتخلف) والمثقفون- في جملتهم- أضبط لعواطفهم من غير المثقفين في جملتهم.
و نحن لو نظرنا إلى سلم الرقي من الحيوان إلى أرقى نوع من الإنسان وجدنا أن الحيوان تسيره غرائزه وانفعالاته الوقتية فقط، وكذلك الشأن في الإنسان البدائي، فإذا ارتقى وجدنا عاملًا جديدًا يظهر في تسيير تصرفاته وهو الفكر والعقل، ونراه محكومًا بهما معًا، وكلما رقى الإنسان كان الفكر أظهر في تصرفه، ووجدنا الحدود الفاصلة بين العواطف والفكر تتكسر، فعواطفه تلطفها الفكرة وتهدئها الحكمة، وعقله تحمسه العاطفة ويزيد حرارته الشعور والانفعالات، ووجدنا العلاقة بين عواطفه وفكره علاقة متينة؛ ذلك لأنه عاش بعواطفه وانفعالاته فقط لم يكن هناك تفاهم بينه وبين غيره إلا من شعر مثل شعوره، لأن أساس التفاهم هو العقل؛ فمن قال إني أحب هذا الشيء أو أكرهه ولم يزد على ذلك لم يكن هناك سبيل إلى مناقشته وإقناعه بخطئه، ولأن الخضوع للعواطف وحدها عرضة للاندفاع السريع ثم التراجع السريع، كما نشاهد في الحب الذي لم يؤسس على التفكير، وعلى النظر في العواقب، فهو انفعال مؤقت كثيرًا ما يعقبه فشل أليم، وعلى العكس من ذلك العواطف بعد التفكير، والاندفاع بعد العلم والتأمل، ولو تتبعت أكثر الناس الذين يسيرون وراء عواطفهم فقط لوجدت عاقبتهم الفشل دائمًا، فمن يغضب لأقل سبب و يحب لأول نظرة، ويندفع لداعي الغريزة لم يستطع السير في الحياة طويلًا، ولابد للنجاح من عواطف يحكمها الفكر، وأفكار تحمسها العواطف.
يتطلب ضبط العواطف كظم الغيظ عند دواعي الغضب، والاعتدال في الانفعال عند بواعث السرور والحزن، والتؤدة والتفكير عند إصدار الحكم، والتفكير عند نزوات الهوى. فلا إفراط في السرور والحزن ولا الغضب، ولا نحو ذلك من أنواع الانفعال.
وهو فضيلة في الأمم كما هو فضيلة في الأفراد، فقد تكون حدة العواطف في الأمة سببًا في شقائها؛ فكثيرًا ما تعرض للأمة أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فيمكنها أن تجتازها بضبط عواطفها، وتلطيف انفعالاتها، والحكمة في تصرفاتها، ووزن عواقبها، على حين أنها تعرض نفسها للخطر إذا انقادت لعواطفها من غير تفكير.
ضبط العواطف في الفرد يكتسب بالمران والتعود، فلا يزال المرء يغضب فيكظم ثم يغضب فيكظم حتى يكون حليمًا، ولا يزال يقاوم نفسه فلا يندفع في سروره وحزنه حتى يكون حكيما، وكثيرًا ما تكون حدة العواطف نتيجة قصر النظر وضيق العقل، فإذا وسع أفقه وجرب الحياة ودرس الأشياء، ونتائجها علم كيف يضبط نفسه.
أما تربية هذا الخلق في الأمة فهو- أولًا في يد الرأي العام، فإذا احتقر الناس الغضوب لغضبه، والجبان لخوفه، والمرح لاستهتاره، والحزين لجزعه، تصلب عود الأمة وانضبطت عواطفها واعتدلت في انفعالاتها.
وهو- ثانيًا - في يد قادتها، فالأمة تحتاج في طور تكونها إلى مثل عليا من قادتهم يقتدون بها، فإذا رأتهم قد ضبطوا عواطفهم إذا اختلفوا، وحفظوا ألسنتهم إذا غضبوا، وضحوا بشهواتهم إذا أزموا، كانت كل هذه دروسًا للشعب يحتذي حذوهم، ويسير على منهجهم.
الكاتب: أحمد أمين
المصدر: موقع المستشار